تفسير سورة ( الحاقة )


تفسير سورة ( الحاقة ) ( 69 )
سورة الحاقة من السور المكية الخالصة وكان نزولها بعد سورة ( الملك ) وقبل سورة المعارج وقال البعض بعد سورة ( القلم ) وعدد آياتها ( 52 آية ) .
ويدل على مكيتها ما أخرجه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال : ( خرجت أتعرض لرسول الله ( ص ) فوجدته قد سبقنى للمسجد فوقفت خلفه فاستفتح بسورة ( الحاقة ) فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت أى فى نفسى هذا والله شاعر فقرأ وما هو يقول شاعر قليلا ما تؤمنون فقلت كاهن فقرأ ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين إلى آخر السورة فوقع الإسلام فى قلبى كل موقع
وعلى هذا الحديث يكون نزولها فى السنة ( 4 أو 5 ) من البعثة لأن إسلام عمر رضى الله عنه كان تقريبا فى ذلك الوقت .
والسورة الكريمة زاخرة بالحديث عن أهوال يوم القيامة وعن مصارع المكذبين وعن أحوال أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وعن إقامة الأدلة المتعددة على أن هذا القرآن من عند الله تعالى وعلى أن الرسول ( ص ) صادق فيما يبلغه عن ربه عز وجل .
وتمتاز سورة ( الحاقة ) بقصر آياتها وبرهبة وقعها على النفوس إذ كل قارىء لها بتدبر وتفكر يحس عند قراءتها بالهول القاصم وبالجد الصارم وبيان أن هذا الدين ( الإسلام ) حق لا يشوبه باطل وأن ما أخبر به الرسول ( ص ) صدق لا يحوم حوله كذب .
نرى ذلك كله فى اسمها وفى حديثها عن مصارع الغابرين وعن مشاهد يوم القيامة التى يشيب لها الولدان .

محور السورة ( الحاقة ) :
تناولت سورة الحاقة ( 5 مواضيع أساسية ) هى :
1 ) تعظيم يوم القيامة وإهلاك المكذبين به .
2 ) أهوال يوم القيامة .
3 ) جزاء الأبرار بعد الحساب .
4 ) حال الأشقياء يوم القيامة .

تعظيم يوم القيامة وإهلاك المكذبين به :
( الحاقة 1 ما الحاقة 2 وما أدراك ما الحاقة 3 كذبت عاد وثمود بالقارعة 4 فأما ثمود فاهلكوا بالطاغية 5 وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية 6 سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية 7 فهل ترى لهم من باقية 8 وجاء فرعون ومن فبله المكتفئات بالخاطئة 9 فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية 10 إنا لما طغا الماء حملناكم فى الجارية 11 لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية  12 )

( الحاقة 1 ما الحاقة 2 وما أدراك ما الحاقة 3 )
ابتدأت السورة الكريمة ببيان أهوال القيامة والمكذبين بها وما عاقب الله عز وجل به أهل الكفر والعناد ( الحاقة ) اسم للقيامة وسميت بذلك لتحقق وقوعها فهى حق قاطع وأمر واقع لا شك فيه ولا جدال .
وكرر ( ما الحاقة ) لتفخيم شأنها وتعظيم أمرها ومن المفروض أن يقال ما هى ولكنه وضع الظاهر موضع الضمير زيادة فى التعظيم والتهويل ( 1 )
وما أعلمك يا محمد ما هى القيامة ؟ إنك لا تعلمها إذ لم تعاينها ولم تر ما فيها من الأهوال فإنها من العظم والشدة بحيث لا يحيط بها وصف ولا خيال فإن العرب إذا أرادوا تشويق المخاطب لأمر أتوا بصيغة الاستفهام يقولون أتدرى ما حدث ؟ والآية الكريمة زيادة فى التعظيم والتهويل فإنها شىء مريع وخطب فظيع .

الحاقة :
القيامة والساعة الواجبة الوقوع ( اسم فاعل ) من حق الشىء وجب .
وسميت بذلك :
1 ) لأنها تكون من غير شك .
2 ) أو لأنها أحقت لأقوام الجنة ولأقوام النار .
3 ) أو لأن فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله .
4 ) أو لأنها تحق كل محاق فى دين الله بالباطل أى تبطل حجة كل مخاصم فى دين الله بالباطل والتحاق :  التخاصم والاحتقاق : الاختصام .
( وما أدراك ما الحاقة ) اسم استفهام المقصود به التهويل والتعظيم .
والاسلوب الذى جاءت به الآيات الكريمة فيه ما فيه من التهويل من شأن الساعة ومن التعظيم لأمرها فيقول تعالى : يوم القيامة الذى يخوض فى شأنه الكافرون والذى تحق فيه الأمور وتثبت أتدرى أى شىء عظيم هو ؟ وكيف تدرى أيها المخاطب ؟ ولم يخبرنا الله عز وجل بكنه يوم القيامة ولا بزمان وقوعه ؟
أيها العاقل مهما تصورت يوم القيامة فإن أهوال يوم القيامة فوق التصور البشرى وكيفما قدرت شدائده فوق ما قدر .
ومن مظاهر التهويل لشأن يوم القيامة افتتاح السورة بلفظ ( الحاقة ) الذى قصد به ترويع المشركين لأن اللفظ يدل على أن يوم القيامة حق .
كما أن تكرار لفظ ( ما ) ( 3 مرات ) مستعمل فى التهويل والتعظيم كما أن إعادة المبتدأ فى الجملة الواقعة خبرا عنه بلفظه بأن قال ( ما الحاقة ) ولم يقل ما هى يدل على التهويل لأن الإظهار فى مقام الإضمار ونظيره قوله تعالى وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال .
والخطاب فى الآيات الكريمة لكل ما يصلح له لأن المقصود تنبيه الناس إلى أن الساعة حق وأن الحساب والجزاء والعقاب فيها حق لكى يستعدوا لها بالإيمان والعمل الصالح .

الفرق فى استعمال القرآن ( ما أدراك ) وما ( يدريك ) :
قال بعض العلماء إن استعمال ( ما أدراك ) غير استعمال ( ما يدريك ) فقد روى عن ابن عباس أنه قال : كل شىء من القرآن من قوله ( ما أدراك فقد أدراه وكل شىء من قوله ( وما يدريك ) فقد طوى عنه فإن صح هذا عنه فمراده أن مفعول ( ما أدراك ) محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للتهويل وإن مفعول ( وما يدريك ) غير محقق الوقوع لأن الإستفهام فيه للإنكار وهو فى معنى نفى الدراية .
قال تعالى ( وما أدراك ما هية نار حامية وقال سبحانه ( وما يدريك ) لعل الساعة قريب .

( كذبت ثمود وعاد بالقارعة ( 4 ) فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ( 5 ) وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ( 6 ) )
ثم بعد أن عظم أمرها وفخم شأنها ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيرا لكفار مكة وتخويفا لهم فقال ( كذبت ثمود وعاد بالقارعة ( 4 ) أى كذب قوم صالح وقوم هود بالقيامة التى تفرغ القلوب بأهوالها .

القارعة :
القيامة والساعة والحاقة والقارعة أسماء ليوم القيامة الذى يتم فيها حساب الناس على أفعالهم فى الدنيا بعد الممات فبعد الحساب يسير الناس على الصراط الموجود فوق النار فيسير عليه الخلق أجمعين فمن كان عمله صالحا دخل الجنة ومن كان عمله فاسدا دخل النار والعياذ بالله عز وجل ولأنها تقرع القلوب باهوالها والقرع فى اللغة نوع من الضرب وهو إمساس جسم لجسم بعنف وفى المصباح وقرعت الباب من باب نفع طرقته ونقرت عليه .

بالطاغية :
بالواقعة المجاوزة للحد والمراد بها الصيحة .
ثم فصل سبحانه وتعالى أحوال بعض الذين كذبوا بالساعة وبين ما ترتب على تكذيبهم من عذاب أليم فى الدنيا والأخرة فقال ( كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية )

وثمود :
قوم صالح عليه السلام سموا بذلك باسم جدهم ثمود وقيل سموا بذلك لقلة المياه التى كانت فى مساكنهم لأن الثمد الماء القليل .
وكانت مساكنهم بين الحجاز والشام وما زالت أماكنهم معروفة باسم قرى صالح وتقع بين المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العربية السعودية .
وقد ذكرت قصتهم فى سور : الأعراف وهود والشعراء والنمل والقمر .


أما عاد :
فهم قبيلة عاد وسموا بذلك نسبة لجدهم ( عاد ) وكانت مساكنهم بالأحقاف باليمن والأحقاف جمع حقف وهو الرمل الكثير المائل وينتهى نسب عاد وثمود لنوح عليه السلام .
والقارعة : اسم فاعل من قرعه إذا ضربه ضربا شديدا ومنه قوارع الدهر اى شدائده وأهواله ويقال قرع فلان البعير إذا ضربه ومنه قولهم العبد يقرع بالعصا وعاد هم قوم هود عليه السلام .

لفظ القارعة :
من أسماء يوم القيامة وسمى يوم القيامة بذلك لأنه يقرع القلوب ويزجرها لشدة أهواله وهو صفة لموصوف محذوف أى بالساعة القارعة .

لفظ الطاغية :
من الطغيان وهو تجاوز الحد والمراد الصاعقة أو الصيحة التى أهلكت قوم ثمود كما قال تعالى
( وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين ) ( هود 67 )
ولفظ الطاغية صفة لموصوف محذوف .
  
الريح الصرصر العاتية :
الريح الشديدة التى يكون لها صوت كالصرير كما قال تعالى ( فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى أيام نحسات ( سورة فصلت الأية 16 ) .

العاتية :
من العتو بمعنى الشدة والقوة وتجاوز الحد .
أى كذبت قبيلة ثمود وقبيلة عاد بالقيامة التى تقرع القلوب وتزلزل النفوس فأما قبيلة ثمود فأهلكوا بالصيحة أو بالصاعقة أو بالرجفة التى تجاوزت الحد فى الشدة والهول والطغيان .
أما قبيلة عاد فأهلكوا بالريح الشديدة التى لها صوت عظيم والتى تجاوزت حد فى قوتها .
وبدأ سبحانه وتعلى يذكر ما أصاب هاتين القبيلتين لأنهما أكثر القبائل المكذبة معرفة لمشركى قريش لأنهما من القبائل العربية ومساكنهما كانت فى شمال وجنوب الجزيرة العربية ( المملكة العربية السعودية ) .
فأما ثمود قوم صالح عليه السلام فأهلكوا بالصيحة المدمرة التى جاوزت الحد فى الشدة وهى الصيحة لقوله تعالى فى سورة هود ( وأخذنا الذين ظلموا الصيحة ) هود ( 67 ) وبها فسرت الصاعقة فى سورة فصلت ( فأخذتهم صاعقة العذاب الهون ) فصلت ( 17 ) أو الرجفة لقوله سبحانه فى سورة الأعراف ( فأخذتهم الرجفة ) الأعراف ( 78 ) وهى الزلزلة المسببة عن الصيحة فلا تعارض بين الأيات لأن الإسناد فى بعض للسبب القريب وفى بعض آخر للبعيد .
وثمود كما جاء فى مواضع أخرى من القرآن الكريم كانت تسكن الحجر فى شمال الحجاز وبين الحجاز والشام وكان أخذهم بالصيحة عن طريق التذكير بوصف الصيحة دون لفظها بالطاغية لأن هذا الوصف بغيض بالهول المناسب لجو السورة ولأن إيقاع اللفظ  يتفق مع إيقاع الفاصلة فى هذا المقطع منها ويكتفى بهذه الآية الواحدة لتطوى ثمود طيا وتغمرهم غمرا وتعصف بهم عصفا وتغطى عليهم فلا تبقى لهم ظلا .
( سخرها عليهم سبع ليال وثمانية ايام حسوما فترعى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ( 7 ) فهل ترى لهم من باقية ( 8 ) )
ثم بين سبحانه كيفية نزول العذاب بهم فقال سخرها عليهم سبع ليال وثمانية ايام حسوما .

التسخير :
التذليل عن طريق القهر والأمر الذى لا يمكن مخالفته .
وحسوما
من الحسم بمعنى التتابع من حسمت الدابة إذا تابعت كيها على الداء مرة بعد مرة حتى ينسحم أو من الحسم بمعنى القطع ومنه سفى السيف حساما لأنه يقطع الرءوس وينهى الحياة .
قوله صرعى :
أى هلكى جمع صريع كقتيل وقتلى وجريح وجرحى .
والإعجاز :
جمع عجز ( جذوع النخل ) التى قطعت رءوسها .

وخاوية :
ساقطة مأخوذ من خوى النجم إذا سقط للغروب أو من خوى المكان إذا خلا من أهله وسكانه وصار قاعا صفصفا بعد أن كان ممتلئا بعماره .
أى أرسل الله عز وجل على هؤلاء الظالمين الريح المتتابعة لمدة سبع ليال وثمانية أيام فدمرتهم تدميرا وصار الرائى ينظر إليهم فيراهم وقد القوا على الأرض هلكى كأنهم فى ضخامة أجسادهم جذوع نخل ساقطة على الأرض وقد انفصلت رءوسهم عنها .
وعبر الله عز وجل بقوله ( فترى القوم .... )  لاستحضار صورتهم فى الأذهان حتى يزداد المخاطب اعتبارا  بأحوالهم وبما حل بهم .
والتشبيه بقوله ( كأنهم أعجاز نخل خاوية ) المقصود منه تشنيع صورتهم والتنفير من مصيرهم السىء لأن من كان هذا مصيره كان جدير بأن يتحامى وأن تجتنب أفعاله التى أدت به لهذه العاقبة المهينة .
والاستفهام فى قوله ( فهل ترى لهم من باقية ؟ ) للنفى والخطاب لكل من يصلح له وقوله باقية صفة لموصوف محذوف فهل ترى لهم من فرقة أو نفس باقية .
وأما عاد فيفصل فى أمر نكبتها ويطيل فقد استمرت وقعتها سبع ليال وثمانية أيام حسوما على حين كانت وقعة ثمود خاطفة صيحة واحدة طاغية ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ) 6
والريح الصرصر الشديدة الباردة واللفظ ذاته فيه صرصرة الريح وزاد شدتها بوصفها عاتية أى متجاوزة الحد فى الهبوب والبرودة لتناسب عتو عاد وجبروتها المحكى فى القرآن الكريم العظيم كأنها عنت على خزانها فلم يتمكنوا من ضبطها قال ابن عباس رضى الله عنه ( ما أرسل الله من ريح قط إلا بمكيال ولا أنزل قطرة قط من الماء إلا بمكيال إلا يوم نوح عليه السلام ويوم عاد فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل ثم قرأ ( إنا لما طغا الماء حملناكم فى الجارية ) ( 11 ) وإن الريح عتت على خزانها فلم يكن لهم عليه سبيل ثم قرأ ( بريح صرصر عاتية )
وكان قوم عاد يسكنون الأحقاف فى جنوب الجزيرة العربية بين اليمن وحضرموت وكانوا أشداء بطاشين جبارين فأرسل لله عز وجل عليهم الريح الصرصر العاتية ( سخرها عليهم ( 7 ) ليال و
( 8 ) أيام حسوما ) والحسوم القاطعة المستمرة فى القطع وفى الحديث الشريف ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) والصبا الريح التى تهب من مشرق الشمس ونصرته بها وكانت يوم الخندق إذا أرسلها الله سبحانه وتعالى على الأحزاب الباردة فى ليلة شاتية فقلعت خيامهم وأطفأت نيرانهم وقلبت قدورهم وكان ذلك بسبب رجوعهم وانهزامهم و ( الدبور ) الريح التى تهب من مغرب الشمس .
سلطها الله عليهم ( 7 ) ليال و ( 8 ) أيام متتابعة لا تفتر ولا تنقطع فترى أيها المخاطب القوم فى منازلهم موتى لا حراك بهم كأنهم أصول نخل متآكلة الأجواف قال المفسرون كانت الريح تقطع تقطع رءوسهم كما تقطع رءوس النخل وتدخل من أفواههم وتخرج من أدبارهم حتى تصرعهم فيصبحوا كالنخل الخاوى الجوف .
فهل ترى أحدا من بقاياهم ؟ أو تجد لهم أثرا؟ لقد أهلكوا عن آخرهم كقوله تعلى ( فاصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ) ( الأحقاف 25 )

( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ( 9 ) فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة
رابية ( 10 ) )
ثم بين سبحانه وتعالى النهاية السيئة لأقوام أخرين فقال ( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية .

وفرعون :
هو الذى قال لقومه أنا ربكم الأعلى وقد أرسل لله عز وجل إليه موسى عليه السلام ثم قلبها ولكنه أعرض عن دعوته وكانت نهايته الغرق .
والمراد بمن قبله الأقوام الذين سبقوه فى الكفر كقوم نوح وابراهيم عليهما السلام .

المؤتفكات :
قرى قوم لوط عليه السلام التى اقتلعها جبريل عليه السلام ثم قلبها بأن جعل عاليها سافلها مأخوذ من انتفك الشىء إذا انقلب رأسا على عقب .
قال تعالى ( جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ) ( هود / 82 ) .
والمراد بالمؤتفكات سكانها ( قوم لوط عليه السلام ) الذين أتوا بفاحشة ما سبقهم إليها أحد من العالمين .
وخصوا بالذكر لشهرة جريمتهم وبشاعتها وشناعتها ولمرور أهل مكة ( قبيلة قريش ) على قراهم وهم فى طريقهم للشام للتجارة ( وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل افلا تعقلون )
( الصافات / 137 / 138 ) وبعد أن أهلكنا أقوام عاد وثمود جاء فرعون وجاء أقوام أخرون    
قبله وجاء قوم لوط وكانوا جميعا كافرين برسل الله عز وجل ومعرضين عن دعوة الحق ومرتكبين للفعلات الخاطئة والفواحش المنكرة .
ومن مظاهر ذلك أنهم عصوا رسول ربهم أى كل أمة من أمم الكفر عصت رسولها حين أمرها بالمعروف والنهى عن المنكر .
فكانت نتيجة إصرارهم على ارتكاب المعاصى والفواحش أن أخذهم الله تعالى أخذة رابية أى أخذة زائدة فى الشدة لزيادة قبائحهم .

رابية :
مأخوذ من ربا الشىء إذا زاد وتضاعف .
وقال سبحانه ( فعصوا رسول ربهم ولم يقل رسولهم للإشعار بانهم لم يكتفوا بمعصية الرسول الذى هو بشر مثلهم وإنما تجاوزوا ذلك للاستخفاف بما جاءهم به من عند ربهم وخالقهم وموجدهم .
والتعبير بالأخذ للإشعار بسرعة الإهلاك وشدته فإذا وصف الأخذ بالزيادة عن المألوف كان المقصود فيه الزيادة فى الاعتبار والاتعاظ لأن هؤلاء جميعا قد أهلكهم سبحانه هلاك الاستئصال الذى لم يبق منهم باقية .

( إنما طغى الماء حملناكم فى الجارية ( 11 ) لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية ( 12 ) ) وقوله : طغى من الطغيان وهو مجاوزة الحد فى كل شىْ والجارية صفة لموصوف محذوف .
أى  اذكروا ايها الناس لتعتبروا وتتعظوا ما جرى للكافرين من قوم نوح عليه السلام فإنهم حين أصروا على كفرهم أغرقناهم بالطوفان وحين علا الماء واشتد فى ارتفاعة اشتدادا خارقا للعادة حملنا أباءكم الذين أمنو بنوح عليه السلام فى السفينة الجارية التى صنعها نوح عليه السلام بأمر الله عز وجل وتم حفظناهم بفضلنا ورحمتنا فى السفينة إلى أن انتهى الطوفان ورست سفينة نوح عليه السلام على جبل الجودى .
( لنجعلها لكم تذكرة ) أى نجعل لكم النعمة إنجاؤكم وإنجاء آبائكم من الغرق عبرة وعظة وتذكيرا بنعم الله تعالى عليكم .
والنعمة والمنة تعيها وتحفظها أذن واعية أى أذن من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه وتعى ما يجب وعيه :

واعية :
من الوعى بمعنى الحفاظ للشىء فى القلب فيقال : وعى فلان الشىء يعيه إذا حفظه أكمل حفظه
( القرآن الكريم ) وقال سبحانه حملناكم فى الجارية مع أن الحمل كان للأباء الذين أمنوا بنوح عليه السلام لأن فى نجاة الأباء نجاة للأبناء ولأنه لو هلك الأباء لما وجد الأبناء .
لنجعلها الضمير للفعلة وهى نجاة المؤمنبن وإغراق الكفرة تذكرة وعبرة وعظة وتعيها أذن واعية من شأنها أن تعى وحفظ ما يجب حفظه ووعيه ولا بترك العمل فإن قلت لم قيل أذن واعية
على التوحيد والتنكير ؟ قلت للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ولتوبيخ الناس بقلة من يعى منهم وإن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهى السواد الأعظم عند الله وأن ما سواها لا يبالى بهم
وإن ملأوا الخافقين .


الحاقة ( 69 ) ( 13 : 24 )
مشهد من أهوال يوم القيامة :
( فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة ( 13 ) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ( 14 )
فيومئذ وقعت الواقعة ( 15 ) وانشقت السماء فهى يومئذ واهية ( 16 ) والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ( 17 ) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ( 18 ) )

تتناول الآيات الوقائع والفجائع التى تكون عند النفخ فى الصور من خراب العالم واندكاك الجبال وانشقاق السماوات .
فإذا نفخ إسرافيل فى الصور نفخة واحدة لخراب العالم قال ابن عباس رضى الله عنه هى النفخة الأولى التى يحصل عنها خراب الدنيا ورفعت الأرض والجبال من أماكنها فضرب بعضها .
( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة ( 9 ) فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة
رابية ( 10 ) )
ثم بين سبحانة النهاية السيئة لأقوام أخرين فقال : وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية .
وفرعون هو الذى قال لقومه من بين ما قال أنا ربكم الأعلى وقد أرسل الله عز وجل إليه نبيه موسى عليه السلام ولكنه أعرض عن دعوته وكانت نهايته الغرق .
المراد بما قبله : الأقوام الذين سبقوه فى الكفر كقوم نوح وابراهيم عليهما السلام
والمراد بالمؤتفكات : قرى قوم لوط عليه السلام التى اقتلعها جبريل عليه السلام ثم قلبها بأن جعل عاليها سافلها مأخوذ من انتفك الشىء إذا انقلب رأسا على عقب .
قال تعالى : جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود ( هود / 82 ) .
والمراد بالمؤتفكات سكانها وهم قوم لوط الذين أتوا بفاحشة ما سبقهم إليها أحد من العالمين .
وخصوا بالذكر لشهرة جريمتهم وبشاعتها وشناعتها ولمرور أهل مكة على قراهم وهم فى طريقهم إلى الشام للتجارة كما قال تعالى L وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون )   
( الصافات 137 / 138 ) .
أى وبعد أن اهلكنا أقوام عاد وثمود جاء فرعون وجاء أقوام أخرون قبله وجاء قوم لوط وكانوا جميعا كافرين برسلنا ومعرضين عن دعوة الحق ومرتكبين للفعلات الخاطئة والفواحش المنكرة
ومن مظاهر ذلك أنهم عصوا رسول ربهم أى كل أمة من أمم الكفر عصت رسولها حين أمرها بالمعروف ونهاها عن المنكر .
فكانت نتيجة إصرارهم على ارتكاب المعاصى والفواحش أن أخذهم الله تعالى أخذة رابية أى أخذة زائدة فى الشدة لزيادة قبائحهم على الأخذات التى أخذ بها غيرهم .
فقوله رابية : ماخوذ من ربا الشىء إذا زاد وتضاعف وقال سبحانه ( فعصوا رسول ربهم ولم يقل رسولهم للإشعار بأنهم لم يكتفوا بمعصية الرسول الذى هو بشر مثلهم وإنما تجاوزوا ذلك للاستخفاف بما جاءهم به من عند ربهم وخالقهم وموجدهم .
والتعبير بالأخذ للإشعار بسرعة الإهلاك وشدته فإذا وصف هذا الأخذ بالزيادة عن المألوف كان المقصود به الزيادة فى الاعتبار والاتعاظ لأن هؤلاء جميعا قد أهلكهم سبحانه هلاك الاستئصال الذى لم يبق منهم باقية .

( إنا لما طغى الماء حملناكم فى الجارية ( 11 ) لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اذن واعية ( 12 ) ) وقوله طغى من الطغيان وهو مجاوزة الحد فى كل شىء والجارية صفة لموصوف محذوف .
أى اذكروا أيها الناس لعتبروا وتتعظوا ما جرى للكافرين من قوم نوح عليه السلام فإنهم حين أصروا على كفرهم أغرقناهم بالطوفان وحين علا الماء واشتد فى ارتفاعه اشتدادا خارقا للعادة حملنا أباءكم الذين أمنوا بنوح عليه السلام فى السفينة الجارية لتى صنعها الله نوح بأمر الله عز وجل وخفظناهم بفضلنا ورحمتنا فى هذه السفينة إلى أن انتهى الطوفان .
وقد فعلنا ذلك لنجعلها لكم تذكرة أى : لنجعل لكم هذه النعمة وهى إنجاؤكم وإنجاء أبائكم من الغرق عبرة وعظة وتذكيرا بنعم الله تعالى عليكم .
والنعمة والمنه تعيها وتحفظها أذن واعية من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه وتعى ما يجب وعيه فقوله واعية : من الوعى بمعنى الحفظ للشىء فى القلب يقال : وعى فلان الشىء يعيه إذا حفظه أكمل حفظ .
وقال سبحانه حملناكم فى الجارية مع أن الحمل كان للأباء نجاة للأبناء ولأنه لو هلك الأباء لما وجد الأبناء لنجعلها : الضمير للفعلة وهى نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة تذكرة عبرة وعظة وتعيها أذن واعية من شأنها أن تعى وتحفظ ما يجب حفظه ووعيه ولا تضيعه بترك العمل .
فإن قلت : لم قيل أذن واعية على التوحيد والتنكير ؟ قلت : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ولتوبيخ الناس بقلة من يعى منهم وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله عز وجل فهى السواد الأعظم عند الله عز وجل وأن ما سواها لا يبالى بهم وإن ملأوا الخافقين .

الحاقة ( 69 ) : الآيات من ( 13 : 24 ) :


مشهد من أهوال يوم القيامة :
( فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة ( 13 ) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ( 14 )
فيومئذ وقعت الواقعة ( 15 ) وانشقت السماء فهى يومئذ واهية ( 16 ) والملك على ارجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ( 17 ) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ( 18 ) )
تتناول الآيات الوقائع والفجائع التى تكون عند النفخ فى الصور من خراب العالم واندكاك الجبال وانشقاق السموات .
واذكر إذا نفخ إسرافيل فى الصور نفخة واحدة لخراب العالم قال ابن عباس رضى الله عنه هى النفخة الأولى التى يحصل عنها خراب الدنيا ورفعت الأرض والجبال عن أماكنها فضرب بعضها ببعض حتى تندق وتتفتت وتصير كثيبا مهيلا .
ففى ذلك الوقت قامت القيامة الكبرى وحدثت الداهية العظمى واتصدعت السماء فهى يومئذ ضعيفة مسترخية ليس فيها تماسك ولا صلابة أى تفطرت وتميز بعضها عن بعض .

والملائكة على أطرافها وجوانبها قال المفسرون وذلك لأن السماء مسكن الملائكة فإذا انشقت السماء وقفوا على أطرافها فزعا مما داخلهم من هول ذلك اليوم ( يوم القيامة ) ومن عظمة ذى الجلال والاكرام الكبير المتعال .
ويحمل عرش الرحمن ثمانية من الملائكة العظام فوق رءوسهم وقال ابن عباس رضى الله عنه ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل .

( فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة ( 13 ) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ( 14 ) فيومئذ وقعت الواقعة ( 15 ) )
والصور : البوق الذى ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله تعالى .
والمراد بالنفخة الواحدة النفخة الأولى التى عندها يكون خراب العالم وقيل هى النفخة الثانية والأولى أولى لأنه هو المناسب لما بعده .
وجواب الشرط قوله : فيومئذ وقعت الواقعة أو قوله يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية .
أى : فإذا نفخ إسرافيل فى الصور بأمر الله عز وجل وقعت الواقعة التى لا مفر من وقوعها لكى يحاسب الناس على أعمالهم فى الدنيا فمن دخل الجنة فقد فاز برضوان الله عليه والواقعة من أسماء يوم القيامة .
ووصفت النفخة بأنها واحدة للتأكيد على أنها نفخة واحدة وليست أكثر وللتنبيه على أن النفخة مع أنها واحدة تتاثر بها السموات والأرض والجبال وهذا دليل على وحدانية الله تعالى وقدرته .
وقوله سبحانه : ( وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة بيان لما ترتب على النفخة الهائلة من آثار .
والمراد بحمل الأرض والجبال : ازالتهما من أماكنهما وتفريق أجزائهما .
والدك : الدق الشديد الذى يترتب عليه التكسيير والتفتيت للشىء .
أى : عندما ينفخ إسرافيل فى الصور بأمر الله عز وجل نفخة واحدة وعندما تزال الأرض والجبال عن اماكنهما تتفتت أجزاؤهما تفتتا شديدا .
فيومئذ وقعت الواقعة أى ففى هذا الوقت تقع الواقعة / القيامة التى لا مرد لوقوعها والواقعة من أسماء يوم القيامة كالحاقة والقارعة .

( وانشقت السماء فهى يومئذ واهية ( 16 ) )
ثم بين سبحانة ما تكون عليه السماء فى يوم القيامة فقال وانشقت السماء فهى يومئذ واهية
والانشقاق : الانفطار والتصدع ومعنى واهية : ضعيفة متراخية .
يقال : البناء بهى وهيا فهو واه إذا كان ضعيفا جدا ومتوقعا سقوطه أى :وفى هذا الوقت الذى يتم فيه النفخ فى الصور بأمر الله عز وجل تتصدع السماء وتتفطر وتصير فى اشد درجات الضعف والاسترخاء والتفرق .
وقيد سبحانه هذا الضعف بهذا الوقت للإشارة إلى أنه ضعف طارىء قد حدث بسبب النفخ فى الصور أما قبل ذلك فكانت فى نهاية الإحكام والقوة وهذا كله للتهويل من شأن النفخة ومن شأن المقدمات التى تتقدم قيام الساعة حتى يستعد الناس لها بالإيمان والعمل الصالح .

( والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك يومئذ ثمانية ( 17 ) )
والمراد بالملك فى قوله تعالى والملك على ارجائها جنس الملك فيشمل عدد مبهم من الملائكة أو جميع الملائكة بمعنى الاستغراق .
والأرجاء : الأطراف والجوانب جمع رجا بالقصر وألفه منقلبة على واو مثل قفا و قفوان .
أى : والملائكة فى ذلك الوقت يكونون على أرجاء السماء وجوانبها ينفذون أمر الله تعالى ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية أى والملائكة واقفون على أطراف السماء ونواحيها ويحمل عرش ربك فوق هؤلاء الملائكة فى يوم القيامة وعرش الله تعالى مما لا يعلمه البشر إلا بالإسم فنحن نؤمن بأن لله عز وجل عرشا إلا أننا نفوض معرفة هيئته وكنهه إلى الله عز وجل .
وقد وردت فى صفة هؤلاء الملائكة الثمانية أحاديث ضعيفة لذا ضربنا صفحا عن ذكرها .

والملائكة على أطرافها وجوانبها قال المفسرون وذلك لأن السماء مسكن الملائكة فإذا انشقت السماء وقفوا على أطرافها فزعا مما داخلهم من هول يوم القيامة ومن عظمة الله ذى الجلال والإكرام الكبير المتعال .
ويحمل عرش الرحمن ثمانية من الملائكة العظام فوق رءوسهم وقال ابن عباس ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل .
( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ( 18 ) )
ثم بين سبحانه ما يجرى على الناس فى يوم القيامة فقال : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية
والعرض : أصله إظهار الشىء لمن يريد التأمل فيه أو الحصول عليه ومنه عرض البائع سلعته على المشترى وهو كناية عن لازمة المحاسبة أى : فى يوم القيامة تعرضون للحساب والجزاء فالجزاء من جنس العمل لا تخفى منكم خافية أى تعرضون للحساب دون أن يخفى منكم أحد على الله تعالى أو دون أن تخفى منكم نفس واحدة على خالقها عز وجل .
وقوله : يومئذ تعرضون أى تسألون وتحاسبون وعبر عنه تشبيها له بعرض السلطان العسكر والجند لينظر فى أمرهم فيختار منهم المصلح للتقريب والإكرام والمفسد للإبعاد والتعذيب .
وفى يوم القيامة الرهيب تعرضون على ملك الملوك ذى الجلال والإكرام للحساب والجزاء فأما المؤمنون بالإسلام جزاؤهم دخول الجنة خالدين فيها أما الكافرون والملحدون والمشركون والفاسقون فمصيرهم النار خالدين فيها فلا يخفى على الله من أحد ولا يغيب عنه سر من أسراركم لأنه العالم بالظواهر والسرائر والضمائر كقوله تعالى ( يوم تبلى السرائر ( 9 ) )
( الطارق / 9 ) .
فالكل مكشوف مكشوف الجسد مكشوف النفس مكشوف الضمير مكشوف العمل مكشوف المصير وتسقط جميع الأستار التى كانت تحجب الأسرار وتتعرى النفوس تعرى الأجساد وتبرز العيوب بروز الشهود ويتجرد الإنسان من حيطته ومن مكره ومن تدبيره ومن شعوره ويفتضح منه ما كان حريصا على أن يسترد حتى عن نفسه !

جزاء الأبرار وتكريمهم :
( فأما من أوتى كتابهىبيمينه فيفول هاؤم اقرأوا كتابية ( 19 )أنى ظننت أنى ملاق حسابيية
( 20 )  قهو فى عيشة راضية ( 21 )  فى جنة عالية ( 22 )  قطوفها دانية ( 23 )
 كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم فى الأيام الخالية ( 24 ) )

 فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤا كتابية ( 19 ) إنى ظننت أنى ملاق حسابية 20
والفاء فى قوله تعالى فأما من أوتى كتابه بيمينه لتفضيل ما يترتب علي العرض والحساب من جزاء .
والمراد بكتابه : ما سجلته الملائكة عليه من أعمال فى الدنيا والمراد بيمينه يده اليمنى لأن من يعطى كتابه بيده اليمنى يكون الإعطاء دليلا على فوزه ونجاته من العذاب والعرب يذكرون التناول باليمين على أنه كتابه عن الاهتمام بالشىء المأخوذ وعن الاعتزاز به .
وجملة فيقول : هاؤم اقرؤا كتابية جواب ( أما ) .
ولفظ  هاؤم : اسم فعل أمر بمعنى خذوا والهاء فى قوله كتابية وحسابية وما ماثلهما للسكت ولأصل كتابى وحسابى والأصل كتابى وحسابى فأخلت علبهما هاء السكت لكى تظهر فتحة الياء
والمعنى فى هذا اليوم يعرض كل إنسان للحساب والجزاء ويؤتى كل فرد كتاب أعماله فأما من أعطى كتابه بيمينه على سبيل التبشير والتكريم فيقول على سبيل البهجة والسرور لكل من يهمه الأمر أن يقول له هاؤم اقرؤا كتابية أى هذا هو كتابى فأخذوه وقرءوه فإنكم ستجدونه مشتملا على الاكرام لى وتبشيرى بالفوز الذى هو نهاية آمالى ومحط رجائى .
إنى ظننت : تيقنت وعلمت أنى ملاق حسابيه أى إنى علمت أن يوم القيامة حق وتيقنت أن الحساب والجزاء صدق فأعددت للأمر عدته عن طريق الإيمان الكامل والعمل الصالح .
كل ظن فى القرآن من المؤمن فهو يقين ومن الكافر فهو شك والجملة الكريمة بمنزلة التعليل للبهجة والمسرة التى دل عليها قوله تعالى ( هاؤم ااقرؤا كتابية ) .
( فهو فى عيشة راضية 21 ) فى جنة عالية 22 قطوفها دانية 23 كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم فى الأيام الخالية 24 )
هذا المؤمن الفائز برضا الله فى عيشة راضية فى حياة ذات رضا ثابت ودائم لها الرضا فهى صيغة نسب .
أو فهو فى عيشة مرضية يرضى بها صاحبها ولا يبغضها فهى فاعل بمعنى مفعول كماء دافق بمعنى مدفوق .
وفى هذا التعبير ما فيه من الدلالة على أن الحياة التى يحياها المؤمن فى الجنة أسمى درجات السرور حتى لكأنه لو كان للمعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها ولفرحت بها فرحا عظيما .
فى جنة عالية  : الذى أوتى كتابه بيمينه يكون فى جنة مرتفعة على غيرها ولون من مزاياها .
قطوفها دانية   : ثمارها قريبة التناول للمؤمن يقطفها كلما أرادها بدون تعب فالقطوف جمع قطف بمعنى مقطوف وهو ما يجتنيه الجانى من الثمار .
ودانية  : اسم فاعل من الدنو بمعنى القرب وجملة كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم فى الأيام الخالية مقول لقول محذوف .
يقال للمؤمنين الصادقين الذين أعطوا كتابهم بأيمانهم كلوا أكلا طيبا واشربوا هنيئا مريئا بسبب ما قدمتموه فى دنياكم من إيمان بالله عز وجل ومن عمل صالح خالص لوجهه عز وجل .
الإمام ابن كثير  : يقال لهم ذلك تفضلا عليهم وامتنانا وإنعاما وإحسانا وإلا فقد ثبت فى الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخله عمله الجنة قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال  : ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل )
وقد ثبت فى الصحيح إن الجنة ( 100 درجة ) ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ثمارها قريبة يتناولها القائم والقاعد والمضطجع وإن العبد يأخذها بفمه من شجرها وهو قائم أو قاعد أو مضطجع .

( الحاقة 69 ) : ( 25 : 37 )

حال الأشقياء يوم القيامة :
( وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول ياليتنى لم أوت كتابيه ( 25 ) ولم أدر ما حسابية ( 26 )
ياليتها كانت القاضية ( 27 ) ما أغنى عنى مالية ( 28 ) هلك عنى سلطانية ( 29 ) خذوه فغلوه
( 30 ) ثم الجحيم صلوه ( 31 ) ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ( 32 ) إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ( 33 ) ولا يحض على طعام المسكين ( 34 ) فليس له اليوم هاهنا حميم 35
ولا طعام إلا من غسلين ( 36 ) لا يأكله إلا الخاطئون ( 37 ) ) .
( وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول ياليتنى لم أوت كتابيه ( 25 ) ولم أدر ما حسابية ( 26 )
ياليتها كانت القاضية ( 27 ) ما أغنى عنى ماليه ( 28 ) هلك عنى سلطانية ( 29 ) ) .
وكعادة القرآن الكريم فى بيان سوء عاقبة الأشرار بعد بيان حسن عاقبة الأخيار أو العكس جاء الحديث عمن أوتى كتابه بشماله بعد الحديث عمن أوتى كتابه بيمينه فقال تعالى :
( وأما من أوتى كتابه بشماله من الجهة التى يعلم أن الإتيان منها يؤدى لهلاكه وعذابه .
فيقول على سبيل التحسر والتفجع ياليتنى لم أوت كتابيه فيقول ياليتنى لم أعط هذا الكتاب لأن إعطانى إياه بشمالى دليل على عذابى وعقابى .
ولم أدر ما حسابية  : وياليتنى لم أعرف شيئا عن حسابى فإن المعرفة التى لم أحسن الاستعداد لها أوصلتنى للعذاب المبين .
ياليتها كانت القاضية  : وياليت الموتة التى متها فى الدنيا كانت هى الموتة النهائية التى لا حياة لى بعدها .
فالضمير للموتة التى ماتها فى الدنيا وإن كان لم يجر لها ذكر إلا أنها عرفت من المقام .
والمراد بالقاضية : القاطعة لأمره التى لا بعث بعدها ولا حساب لأن ما وجده بعدها أشد مما وجده بعد حلوله بها .
قال قتادة : تمنى الموت ولم يكن عنده فى الدنيا شىء أكره منه وشر من الموت ما يطلب منه الموت .
ثم أخذ الذى أوتى كتابه بشماله يتحسر على تفريطه وغروره ويحكى القرآن ذلك فيقول : ما أغنى عنى مالية : الأموال التى كنت أملكها فى الدنيا وأتفاخر بها لم تغن عنى شيئا من عذاب الله ولم تنفعنى ولو منفعة قليلة .
فما نافية والمفعول محذوف للتعميم ويجوز أن تكون استفهامية والمقصود بها التوبيخ .
أى شىء أغنى عنى مالى ؟ إنه لم يغن عنى شيئا .
هلك عنى سلطانية  : ذهب عنى وغاب عنى فى هذا اليوم ما كنت أتمتع به فى الدنيا من جاه وسلطان ولم يحضرنى شىْْْْء منه كما أن حججى وأقوالى التى كنت أخاصم بها المؤمنين قد ذهبت أدراج الرياح .
وعدى الفعل ( هلك ) بعن لتضمنه معنى غاب وذهب .

( خذوه فغلوه ( 30 ) ثم الجحيم صلوه ( 31 ) ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه
( 32 )
وخلال التفجع والتحسر الطويل يأتى أمر الله عز وجل الذى لا يرد فيقول سبحانه للزبانية المكلفين بإنزال العذاب بالكافرين : خذوه فغلوه خذوا الكافر فأجمعوا يديه إلى عنقه .
فقوله : خذوه معمول لقول محذوف وهو جواب عن سؤال نشأ مما سبق من الكلام فكأنه قيل : وماذا يفعل به بعد التحسر والتفجع فكان الجواب : أمر الله عز وجل ملائكته بقوله خذوه فغلوه
وقوله فغلوه من الغل بضم الغين وهو ربط اليدين إلى العنق على سبيل الإذلال ثم الجحيم صلوه أى ثم بعد التقييد والإذلال اقذفوا به إلى الجحيم وهى النار العظيمة الشديدة التأجج والتوهج .
ومعنى صلوه بالغوا فى تصليته النار بغمسه فيها مرة بعد أخرى وقلبه على جمرها كما تقلب الشاة فى النار .
ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه والسلسلة : اسم لمجموعة من حلق الحديد يربط بها الشخص لكى لا يهرب أو لكى يزاد فى إذلاله والمراد قوله ذرعها أى طولها والمراد بالسبعين حقيقة هذا المقدار فى الطول أو يكون العدد كناية عن عظيم طولها كما فى قوله تعالى ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) ( التوبة 80 ) .
وقوله : فاسلكوه من السلك بمعنى الإدخال فى الشىء كما فى قوله تعالى ( ما سلكم فى سقر )
أى ما أدخلكم فيها .
خذوا الكافر فقيدوه ثم أعدوه للنار المحرقة ثم اجعلوه مغلولا فى سلسلة طولها سبعون ذراعا بحيث تكون محيطة به إحاطة تامة أى القوا به إلى الجحيم وهو مكبل فى أغلاله .
وثم فى كل آية جىء بها للتراخى الرتبى لأن كل عقوبة أشد من سابقتها إذ إدخاله فى السلسلة الطويلة أعظم من مطلق إلقائه فى الجحيم كما أن إلقاءه فى الجحيم أشد من مطلق أخذه وتقييده .
وفى الآيات ما فيها من تصوير يبعث فى القلوب الخوف الشديد ويحملها على حسن الاستعداد لهذا اليوم الذى لا تغنى فيه نفس عن نفس شيئا ( يوم القيامة ) .

البلاغة :
فى تقديم السلسلة على السلك نكتة بلاغية هامة ( التخصيص ) وتقديم الجحيم على التصلية أى لا تسلكوه إلا فى هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق فى الجحيم وفى تخصيص الطول بسبعين ذراعا مبالغة فى إرادة الوصف بالطول كما قال إن تستغفر لهم سبعين مرة يريد مرات كثيرة لأن السلسلة كلما طالت كان الإرهاق أشد والعذاب أمض والعدد عند الجاحظ لا يحمل فى القرآن معنى التحديد الكمى إنما المقصود التعدد والكثرة .

( إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ( 33 ) ولا يحض على طعام المسكين ( 34 ) فليس له اليوم هاهنا حميم ( 35 ) ولا طعام إلا من غسلين ( 36 ) لا يأكله إلا الخاطئون ( 37 ) ) .
ثم بين سبحانه الأسباب التى أدت بهذا الشقى لهذا المصير الأليم فقال : إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين .
إن هذا الشقى إنما حل به ما حل من عذاب لأنه كان فى الدنيا مصرا على الكفر وعلى عدم الإيمان بالله الواحد القهار .
لا يحض : لا يحث نفسه ولا غيره على طعام المسكين على بذل طعامه أو طعام غيره للمسكين الذى حلت به الفاقة والمسكنة .
ولعل وجه التخصيص لهذين الأمرين بالذكر فإن أقبح شىء يتعلق بالعقائد الكفر بالله عز وجل وأن أقبح شىء فى الطباع البخل وقسوة القلب .
ثم ختم سبحانه الآيات بزيادة البيان للمصير الأليم للشقى فقال : فليس له اليوم : يوم القيامة هاهنا حميم فليس له فى هذا اليوم من صديق ينفعه أو من قريب يشفق عليه أو يحميه أو يدفع عنه .
ولا طعام إلا من غسلين : وليس له فى جهنم من طعام سوى الغسلين وهو صديد أهل النار أو شجر يأكله أهل النار فيغسل بطونهم فيخرج أحشاءهم منها أو ليس لهم إلا شر الطعام وأخبثه .
لا يأكله : الغسلين إلا الخاطئون إلا الكافرون الذين تعمدوا ارتكاب الذنوب وأصروا عليها من خطىء الرجل : إذا تعمد ارتكاب الذنب .

الفرق بين الخاطىء والمخطىء :
فالخاطىء : هو من يرتكب الذنب عن تعمد واصرار .
والمخطىء  : هو من يرتكب الذنب عن غير تعمد واصرار .
فنجد الآيات الكريمة قد ساقت أشد ألوان الوعيد والعذاب للكافرين بعد أن ساقت قبل ذلك أعظم أنواع النعيم المقيم للمؤمنين .

الحاقة ( 69 ) الآيات ( 38 : 52 )

تعظيم القرآن الكريم وتأكيد نزوله من عند رب العالمين :
( فلا أقسم بما تبصرون ( 38 ) وما لا تبصرون ( 39 ) إنه لقول رسول كريم ( 40 ) وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ( 41 ) ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ( 42 ) تنزيل من رب العالمين ( 43 ) ولو تقول علينا بعض الأقاويل ( 44 ) لأخذنا منه باليمين ( 45 ) ثم لقطعنا منه الوتين ( 46 ) فما منكم من أحد عنه حاجزين ( 47 ) وإنه لتذكرة للمتقين ( 48 ) وإنا لنعلم أن منكم مكذبين ( 49 ) وإنه لحسرة على الكافرين ( 50 ) وإنه لحق اليقين ( 51 ) فسبح باسم ربك العظيم ( 52 ) ) .
وبعد العرض الذى بلغ الذروة فى قوة التأثير لأهوال يوم القيامة ولبيان حسن عاقبة المتقين وسوء عاقبة المكذبين بعد كل ذلك أخذت السورة فى أواخرها فى تقرير حقيقة هذا الدين
( دين الإسلام ) وفى تأكيد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه وفى بيان أن هذا القرآن من عنده تعالى وحده فقال سبحانه ( فلا أقسم بما تبصرون ( 38 ) وما لا تبصرون
( 39 ) إنه لقول رسول كريم ( 40 ) ) .
والفاء فى قوله : فلا اقسم بما تبصرون وما لا تبصرون للتفريع على ما فهم مما تقدم من انكار المشركين ليوم القيامة ولكون القرآن من عند الله .,
فلا فى مثل هذا التركيب يرى بعضهم أنها مزيدة فيكون المعنى : أقسم بما تبصرون من المخلوقات كالسماء والأرض والجبال والبحار والأنهار وبما لا تبصرون منها كالملائكة والجن
( مزيدة فى النحو لزيادة التوكيد ) .
وقوله : إنه لقول رسول كريم جواب القسم وهو المحلوف عليه أى : أقسم أن هذا القرآن لقول رسول كريم هو محمد صلى الله عليه وسلم .
وأضاف سبحانه القرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أنه هو الذى تلقاه عن الله تعالى وهو الذى بلغه عنه بأمره وإذنه .
أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا القرآن وينطق به على وجه التبليغ عن الله عز وجل .
وبعضهم يرى أن ( لا ) فى مثل هذا التركيب ليست مزيدة وإنما هى أصلية ويكون المقصود من الآية الكريمة بيان أن الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى قسم إذ كل عاقل عندما يقرأ القرآن يعتقد أنه من عند الله عز وجل .
ويكون المكعنى فلا أقسم بما تبصرون من مخلوقات وبما لا تبصرون لظهور الأمر واستنغاثه عن القسم .
وقيل إن ( لا ) ليست زائدة بل هى تنفى القسم أى لا أحتاج لقسم لوضوح الحق فى ذلك والأول أولى .
وتأكيد قوله ( إنه لقول رسول كريم ) بإن وباللام للرد على المشركين الذين قالوا عن القرآن والكريم : أساطير الأولين .
والوجود أضخم بكثير مما يرى البشر بل مما يدركون وما يبصر البشر من الكون وما يدركون إلا أطرافا قليلة محصورة تلبى حاجتهم لعمارة الأرض والخلافة فيها كما شاء الله لهم والأرض كلها ليست سوى هباءة لا تكاد ترى أو تحس فى ذلك الكون الكبير والبشر لا يملكون أن يتجاوزوا ما هو مأذون  لهم برؤيته وادراكه من هذا الملك العريض  ومن شؤونه وأسراره ونواميسه التى أودعها إياه خالق الوجود ( فلا أقسم بما تبصرون ( 38 ) وما لا تبصرون ( 39 ) ) .

( وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ( 41 ) ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ( 42 ) تنزيل من رب العالمين ( 43 ) ) .
ثم أضاف سبحانه وتعالى إلى هذا التأكيد تأكيدات أخرى فقال : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون .
الشاعر : من يقول الشعر       الكاهن : من يتعاطى الكهانة عن طريق الزعم بأنه يعلم الغيب .
وانتصب ( قليلا ) فى الموضعين على أنه صفة لمصدر محذوف و ( ما ) مزيدة لتأكيد القلة .
والمراد بالقلة فى الموضعين انتفاء الإيمان منهم أصلا أو أن المراد بالقلة : إيمانهم اليسير كإيمانهم بأن الله عز وجل هو الذى خلقهم مع إشراكهم معه آلهة أخرى فى العبادة فليس القرآن الكريم بقول شاعر ولا بقول كاهن وإنما هو تنزيل من رب العالمين على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لكى يبلغه للناس أجمعين فى كل زمان ومكان ولكى يخرج الناس بواسطته من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان .
ولكن الكافرون لا إيمان عندهم أصلا أو قليلا ما تؤمنون بالحق وقليلا ما تتذكرونه وتتعظون به .
ففى الآيتين رد على الجاحدين الذين وصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر أو كاهن .
وخص الوصفين بالذكر لأن وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه رسول كريم كاف لنفى الجنون أو الكذب عنه صلى الله عليه وسلم أما وصفه بالشعر والكهانة فلا ينافى عندهم وصفه بأنه كريم لأن الشعر والكهانة كان معدودين عندهم من صفات الشرف لذا نفى سبحانه عنه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر أو كاهن وأثبت له أنه رسول كريم .
وقوله : تنزيل من رب العالمين تأكيد لكون القرآن من عند الله تعالى وأنه ليس بقول شاعر أو كاهن فهذا القرآن ليس كما زعمتم أيها الكافرون وإنما هو منزل من رب العالمين لا من أحد سواه عز وجل .

بل هو تنزيل من رب العزة جل وعلا كقوله تعالى ( وإنه لتنزيل رب العالمين ( 192 ) نزل به الروح الأمين ( 193 ) على قلبك لتكون من المنذرين ( 194 ) بلسان عربى مبين ( 195 ) )

( الشعراء : 192 : 195 )

فهو كلام رب العالمين لأنه تنزيله وهو قول جبريل عليه السلام لأنه نزل به وهو قول محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أنذر الخلق به لما قال ( إنه لقول رسول كريم ( 40 ) ) أتبعه بقوله
( تنزيل من رب العالمين ( 43 ) ) حتى يزول الإشكال .
والغرض من الآية تبرئة الرسول صلى الله عليه وسلم مما نسبه إليه المشركون من دعوى السحر والكهانة ثم أكد ذلك بأعظم برهان على أن القرآن من عند الله عز وجل فأكد أنه لو اختلق محمد صلى الله عليه وسلم بعض الأقوال ونسب إلينا ما لم نقله لانتقمنا منه بقوتنا وقدرتنا ثم لقطعنا نياط قلبه حتى يموت .

( ولو تقول علينا بعض الأقاويل ( 44 ) لأخذنا منه باليمين ( 45 ) ثم لقطعنا منه الوتين ( 46 )
فما منكم من أحد عنه حاجزين ( 47 ) )
ثم بين سبحانه ما يحدث للرسول صلى الله عليه وسلم ولو أنه على سبيل الفرض غير أو بدل شيئا من القرآن فقال : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين .
والتقول : افتراء القول ونسبته إلى من لم يقله فهو تفعل من القول يدل على التكلف والتصنع والاختلاق .
والأقاويل : جمع أقوال الذى هو جمع قول فهو جمع الجمع .
ولو أن محمدا صلى الله عليه وسلم افترى علينا بعض الأقوال أو نسب إلينا قولا لم نقله أو لم نأذن له فى قوله لو أنه فعل شيئا من ذلك على سبيل الفرض لأخذنا منه باليمين أى : لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه وهو كناية عن إذلاله وإهانته .
أو : لأخذناه بالقوة والقدرة وعبر عنهما باليمين لأن قوة كل شىء فى ميامنه والمقصود بالجملة الكريمة : التهويل من شأن الأخذ وأنه أخذ شديد سريع لا يملك معه تصرفا أو هربا .
ثم أضاف سبحانة لهذا التهويل ما هو أشد منه فى هذا المعنى فقال : ثم لقطعنا منه الوتين .
ثم بعد هذا الأخذ بقوة وسرعة لقطعنا وتينه وهو عرق يتصل بالقلب متى قطع مات صاحبه .
والتعبير من مبتكرات القرآن الكريم ومن أساليبه البديعة إذ لم يسمع عن العرب أنهم عبروا عن الإهلاك بقطع الوتين .

ثم بين سبحانه أن أحدا لن يستطيع منع عقابه فقال : فما منكم من أحد عنه حاجزين .
فما منكم من أحد أيها المشركون يستطيع أن يدفع عقابنا عنه أو يحول بيننا وبين ما نريده فالضمير فى عنه يعود للرسول صلى الله عليه وسلم .
إن التقول : افتعال القول كأن فيه تكلفا من المفتعل وسمى الأقوال المتقوله (أقاويل ) تصغيرا بها وتحقيرا كقولك : الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة من القول .
والمعنى : ولو ادعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم .
معاجلة بالسخط والانتقام فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته .
وخص اليمين عن اليسار لأن القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب فى قفا المقتول أخذ بيساره وإذا أراد أن يوقعه فى جيده وأن يكفحه بالسيف وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه .
ومعنى : لأخذنا منه باليمين : لأخذنا بيمينه كما أن قوله : ثم لقطعنا منه الوتين : لقطعنا وتينه والوتين : نياط القلب وهو حبل الوريد إذا قطع مات صاحبه .
وفى الآيات الكريمة أقوى الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله عز وجل لأنه لو كان كما زعم الزاعمون أنه من تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم لما نطق بهذه الألفاظ التى فيها ما فيها من تهديده ووعيده .
كما أنها فيها إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم يتقول شيئا وإنما بلغ القرآن عن ربه عز وجل دون أن يزيد حرفا أو ينقص حرفا لأن حكمة الله عز وجل قد اقتضت أن يهلك كل من يفترى عليه الكذب ومن يزعم أن الله عز وجل أوحى إليه مع أنه سبحانه لم يوح إليه .

(وإنه لتذكرة للمتقين ( 48 ) ) .
وقوله سبحانه وإنه لتذكرة للمتقين معطوف على قوله إنه لقول رسول كريم فإن القرآن لقول رسول كريم بلغه عن الله عز وجل وإنه لتذكير  وارشاد لأهل التقوى لأنهم هم المنتفعون بهداياته
( وإنا لنعلم أن منكم مكذبين ( 49 ) ) .
قوله عز وجل : وإنا لنعلم أن منكم مكذبين تبكيت وتوبيخ لهؤلاء الكافرين الذين جحدوا الحق بعد أن تبين لهم أنه حق .
وإنا لا يخفى علينا أن منكم أيها الكافرون من هو مكذب للحق عن جحود وعناد ولكن هذا لن يمنعنا من إرسال رسولنا بهذا الدين ( دين الاسلام ) لكى يبلغه إليكم ومن شاء بعد ذلك فليؤمن ومن شاء فليكفر وسنجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب .

( وإنه لحسرة على الكافرين ( 50 ) )
قوله سبحانه : وإنه لحسرة على الكافرين بيان لما يكون عليه الكافرون من ندم شديد .عندما يرون حسن مصير المؤمنين وسوء مصير المكذبين .
والحسرة : الندم الشديد المتكرر على أمر نافع قد مضى ولا يمكن تداركه .
وإن القرآن الكريم ليكون يوم القيامة سبب حسرة شديدة وندامة عظيمة على الكافرين لأنهم يرون المؤمنين به فى هذا اليوم ( يوم القيامة ) فى نعيم مقيم أما هم فيجدون أنفسهم فى عذاب أليم .

( وإنه لحق اليقين ( 51 ) ) .
قوله : ,إنه لحق اليقين معطوف على ما قبله وإن القرآن لهو الحق الثابت الذى لا شك فى كونه من عند الله عز وجل وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد بلغه للناس دون أن يزيد فيه حرفا أو ينقص منه حرفا .
وإضفة الحق إلى اليقين من إضافة الصفة إلى الموصوف أى : لهو اليقين الحق أو هو من إضافة الشىء لنفسه مع اختلاف اللفظين كما فى قوله : حبل الوريد إذ الحبل هو الوريد .
والمقصود من مثل هذا التركيب : التأكيد .
وقد قالوا : إن مراتب العلم ثلاثة : أعلاها حق اليقين ويليها عين اليقين ويليها علم اليقين .
فحق اليقين : كعلم الإنسان بالموت عند نزوله به وبلوغ الروح الحلقوم .
عين اليقين  : كعلمه به عند حلول اماراته وعلاماته الدالة على قربه .
علم اليقين   : كعلمه بأن الموت سينزل به لا محالة مهما طال الأجل .

( فسبح باسم ربك العظيم ( 52 ) )
الفاء فى قوله فسبح باسم ربك العظيم للإفصاح فإذا كان الأمر من أن هذا الدين ( دين الاسلام )
حق وأن البعث حق وأن القرآن حق فنزه اسم ربك العظيم عما لا يليق به من النقائص فى الاعتقاد أو فى العبادة أو فى القول أو فى الفعل .
والباء فى قوله : باسم ربك للمصاحبة أى نزه ربك تنزيها مصحوبا بكل ما يليق به من طاعة واخلاص ومواظبة على مراقبته وتقواه .



من اللمسات البيانية فى سورة الحاقة

تناسب خواتيم القلم مع فواتح الحاقة :
فى أواخر القلم قال ( فذرنى ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ( 44 )
وأملى لهم إن كيدى متين ( 45 ) وضرب مثلا لهؤلاء فى الحاقة ( ثمود وعاد بالقارعة ( 4 ) فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ( 5 ) وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ( 6 ) ) إستدرجهم وأملى لهم حتى أهلكهم أملى لهم يعنى أؤجل لهم أدعهم يفعلون إلى أن أهلكهم .

قال فى أواخر القلم ذكر المتقين والكافرين ( إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم ( 34 ) ) وذكر الكافرين ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ( 42 ) وقال فى أول الحاقة ذكر من أوتى كتابه بيمينه ومن أوتى كتابه بشماله .
ذكر المتقين وذكر يوم يكشف عن ساق وهذا فى يوم القيامة والحاقة من أسماء يوم القيامة هذا ما ذكره فى المتقين وما ذكره فى الكافرين هو إنما يكون فى يوم القيامة الحاقة فقال الحاقة 1
ما الحاقة ( 2 ) وما أدراك ما الحاقة ( 3 ) ثم ذكر من أوتى كتابه بيمينه ( إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم ( 34 ) ) وذكر من أوتى كتابه بشماله ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ( 42 ) ) فضرب المثالين فى الحاقة كل واحدة ذكر فيها جانبا من الجوانب استكمالا لما يذكر أو للتوضيح والتبيين وليس من قبيل التكرار وإنما تضيف إطارا به تكتمل الصورة العامة .

هدف سورة الحاقة :
آياتها كلها تذكر بالآخرة والتذكرة بالآخرة وسيلة مهمة للداعية وهى من أهم ما يجب أن يستخدمه الداعية فى دعوته لأن التذكرة بالآخرة ترقق القلوب القاسية وقد احتوت السورة على مشاهد عظيمة من يوم القيامة يوم يظهر الحق الكامل ويعلم الناس إذ كانوا فى الجنة أو النار .

آية ( 4 ) :
ما دلالة تقديم ثمود على قوم عاد فى سورة الحاقة مع أنها تتأخر فى باقى القرآن ؟
التقديم والتأخير عموما قد يكون بالمتقدم أو المتأخر حتى فى الكلام العادى نضرب مثلا بمن هو أمامنا أو بمن هو متقدم : تقول لواحد انظر لفلان كيف كان أنظر لفلان الذى قبله قد تذكره بمن تشاهده وقد تذكره بالقديم تقول له هذه سنة الله فى الخلق منذ خلق الله الأرض من آدم أحيانا التذكير أو الذكر يبدأ بالأقرب ثم الأبعد وأحيانا بالعكس .

سياق السورة والسمت العام فى السورة كلها تبدأ بالأقرب :
( كذبت ثمود وعاد بالقارعة ( 4 ) ) ( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتكفات بالخاطئة ( 9 ) فرعون ومن قبله ثم قال ( إنا لما طغى الماء حملناكم فى الجارية ( 11 ) ) هذا نوح هذا سمت عام فى السورة حتى فى مشاهد القيامة ( إذا نفخ فى الصور نفخة واحدة ( 13 ) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ( 14 ) بدأ بالأرض ثم قال وانشقت السماء .
وفى أحيان كثيرة يبدأ بالسماء وهى الأبعد ( إذا السماء انشقت ) ( إذا السماء انفطرت )
( إذا الشمس كورت ( 1 ) وإذا النجوم انكدرت ( 2 ) وإذا الجبال سيرت ( 3 ) ( التكوير )
السمت العام فى السورة أنه يبدأ بالأقرب ثم الأبعد حتى فى القسم ( فلا أقسم بما تبصرون 38
وما لا تبصرون ( 39 ) الحاقة ) ما تبصر أقرب مما لا تبصر هذا السمت العام فى السورة
ثم إن السورة تبدأ بالحاقة ويبدو أن كل التى تبدأ بأمثالها الحاقة والقارعة والصاخة والآزفة والغاشية والواقعة تبدأ بالأقرب .
1 ) ( القارعة ( 1 ) ما القارعة ( 2 ) وما أدراك ما القارعة ( 3 ) يوم يكون الناس كالفراش
المبثوث ( 4 ) وتكون الجبال كالعهن المنفوش ( 5 ) ) ( القارعة ) .
2 ) ( فإذا جاءت الصاخة ( 33 ) يوم يفر المرء من أخيه ( 34 ) وأمه وأبيه ( 35 ) وصاحبته وبنيه ( 36 ) )
3 ) ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ( 34 ) يوم يتذكر الإنسان ما سعى ( 35 ) ( النازعات )
4 ) ( إذا وقعت الواقعة ( 1 ) ليس لوقعتها كاذبة ( 2 ) خافضة رافعة ( 3 ) إذا رجت الأرض
رجا ( 4 ) وبست الجبال بسا ( 5 ) ) ( الواقعة ) .
5 ) ( هل أتاك حديث الغاشية ( 1 ) وجوه يومئذ خاشعة ( 2 ) عاملة ناصبة ( 3 ) ) الغاشية
هذه تحتاج لتدقيق أكثر ولكن هكذا يبدو لى بنظرة سريعة والله أعلم .

آية ( 7 ) :
( تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ( 20 ) ( القمر )
لماذا جاءت بالتذكير ( كأنهم أعجاز نخل خاوية ( الحاقة ) لماذا جاءت بالتأنيث ؟ وهى وصف للتخل فى الحالتين لكن إحدى الآيتين بالتأنيث والأخرى بالتذكير رجعت لكتب التفسير التى تقول أنها متناسبة لخواتيم الآيات لكن أنها ليست للفاصلة وحدها وقطعا هناك أمر غير الفاصلة ووصلت لإجابة وتمت كتابتها فى كتاب بلاغة الكلمة فى القرآن ثم اهتديت إليها عرضا .

توجد قاعدة :
إن التأنيث قد يفيد المبالغة والتكثير يعنى رجل راوية داعية فيها مبالغة كعلام علامة / حطم حطمة / همز همزة مبالغة وقاعدة لغوية تعنى الكثير :
1 ) ( قالت الأعراب آمنا ) ( الحجرات 14 ) بالتأنيث وقال ( قال نسوة فى المدينة ( 30 ) ) الأعراب أكثر عددا قال عز وجل ( إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى يوم نحس مستمر 19
تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ( 20 ) ( القمر ) قال فى يوم واحد .
2 ) بينما فى سورة الحاقة قال ( سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية ( 7 ) ) أيها الأكثر سبع ليال بلياليها أم يوم سبع أيام فجاء بالتأنيث للدلالة على المبالغة والتكثير .ط
3 ) ثم قال فى الحاقة قال ( وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ( 6 ) ) .
4 ) وفى القمر قال ( ريحا صرصرا ) لم يقل عاتية فزاد العتو وزاد الأيام فى الحاقة فيكون الدمار أكبر فقال خاوية لأن الخاوية أكثر من منقعر لأن كل منقعر هو خاوى والخاوى عام يشمل المنقعر وغير المنقعر فجاء بكلمة خاوية التى هى أعم من منقعر وجاء بالتأنيث للمبالغة والتكثير وصفة الرياح أقل ريح صرصر لذا قال بعدها ( فهل ترى لهم من باقية ) .
فى الآية ( أعجاز نخل خاوية ) ( منقعر ) فهل يمكن أن نفهمها على أنه خاوية تعود على الاعجاز وفى حالة منقعر تعود على النخل ؟
إذا رجعنا لتشكيل خاوية ومنقعر فى الحالتين مجرورة ( خاوية ) ( منقعر ) وهى وصف للنخل وليس للإعجاز ولو كانت تعود على إعجاز لكانت تكون مرفوعة ( اعجاز نخل خاوية ) .

آية ( 13 ) :
قال تعالى ( فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة ( 13 ) ( الحاقة ) لماذا جاء الفعل ( نفخ ) مذكرا ولم يقل نفخت مع أن الفاعل مؤنث ( نفخة ) ؟
أولا الحكم نحوى  : إن نفخة مؤنث مجازى والمؤنث المجازى يجوز فيه التذكير والتأنيث والفصل بين الفعل والفاعل ( فى الصور ) أمر آخر يحسن التذكير هذا أمر نحوى إذن من الناحية النحوية يجوز التذكير والتانيث .
يبقى هناك أمر آخر قرنت ( نفخة ) وإعرابها مفعول مطلق و ( فى الصور ) نائب فاعل ( جار ومجرور ) وفى هذه الحالة لا يجوز أصلها نفخ الله فى الصور نفخة واحدة باعتبارها متعلقة بمحذوف مفعول به لأن الفعل اللازم إذا كان الفعل لازما ممكن أن ينوب عنه الظرف بشروط نائب الفاعل :
( سوفر يوم الخميس) وسافرت يوم الخميس سافر فعل لازم ليس متعديا وعندما نبنيه للمجهول سوفر يوم ( يوم نائب فاعل ) .
أو الجار والمجرور بشروطه ( جلست فى الحديقة ) ( جلس فى الحديقة ) جار ومجرور .
وقد ينوب عنه المصدر مثل انطلق انطلاق شديد ( نائب فاعل ) .
فهنا على القراءة المشهورة ( نفخة ) نائب فاعل وأصلها مصدر ونفخ فى الصور نفخة واحدة
( نفخة إسم مرة ) وعندنا قراءة نفخة مفعول مطلق كانطلقت انطلاقة .
إذن على هذه القراءة لا يصح أصلا ( نفخت ) على قراءة نفخة هذا ليس فاعلا حتى تؤنث له الفعل لأن المفعول المطلق لا يؤنث له الفعل أولا بموجب هذه القراءة ( نفخة ) لا يصح التأنيث أصلا ثم عندنا مؤنث مجازى وعندنا الفصل عندنا ( 3 ) أمور الأن .
1 ) قسم يجيز التذكير      2 ) قسم يجيز التأنيث .

وهناك أمر آخر حتى لو لم تكن قراءة بالنصب ( نفخة ) وهو أن هذا يوم شديد ( وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ( 14 ) الحاقة هذا يوم شديد يجعل الولدان شيبا كما ذكر تعالى والتذكير فى هذا أولى كما فى تذكير الملائكة فى الشدة .
عندما يذكر ربنا الملائكة فى الشدة يذكرهم وعندما يذكرهم فى البشرى أو فيما هو أقل يؤنثهم لو عندنا أمران أحدهما أشد من الآخر يستعمل الملائكة بالتذكير لما هو أشد .
( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق
( 50 ) ) ( الأنفال ) قال يتوفى ( مذكر ) مع الملائكة استعمل الفعل بالتذكير وقال ( فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ( 27 ) محمد ) .
مؤنث لم يقل ذوقوا عذاب الحريق مع أن الفعل واحد فى الحالتين وهذه طبيعة القرآن إذا كان الأمر شديدا يستعمل التذكير للملائكة وفى مقام البشرى يستعمل المؤنث .
( ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ( 25 ) الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا ( 26 ) الفرقان ) نزل مذكر .
( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون ( 30 ) فصلت ) الفعل تتنزل مؤنث .

الخلاصة :
تذكير الفعل مع ( نفخة ) لأن :
1 ) نفخة مؤنث مجازى         2 ) يوجد فاصل بينها وبين الفعل .
3 ) ( نفخة ) أصلها مفعول مطلق والمفعول المطلق لا يؤنث له الفعل .
4 ) اليوم فى وصف الشدة يوم القيامة والقرآن فى وصف الشدة يذكر الفعل .

( فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة ( 13 ) الحاقة ) ما هى الحكمة فى هذا التعبير ؟
الصفة قد تكون مؤكدة مثل ( أمس دابر ) فإذا نفخ الصور نفخة واحدة ( 13 ) الحاقة ) هى واحدة ( وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين ( 51 ) النحل ) إلهين يعنى اثنين ( وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ( 14 ) الحاقة ) .

آية ( 19 ) :
ما معنى هاؤم اقرأوا كتابيه ؟
هاؤم  : معناها هاكم فى العامية مقول هاك معناها خذ هاؤم معناها خذوا وإن كان أهل اللغة يقولون هاء تأتى بمعنى هات أى عكس خذ لكن فى الآية خذوا اقرأوا كتابيه فرح بما أوتى من كتابه باليمين وفى التفسير يقولون تعالوا اقرأوا كتابيه .
هى هاء بالإفراد مثل هاك هاؤم تفيد الجمع .

حرف الهاء يقصد بها التنبيه فى ( هؤلاء / هذا ) فهل للهاء نفس الدلالة فى ( فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه ( 19 ) الحاقة ) وما دلالة باقى الكلمة ( اؤم ) ؟
إن الملاحظة والتتبع والمراعاة وتشير إلى أن المشاهدين يتتبعون فصاروا ممن يلاحظ الآيات كما قال تعالى عن اناس هجروا هذا القرآن ( أفلا يتدبرون القرآن ) فصاروا ممن يتدبر القرآن وينظرون شيئا دبر شىء .
( فاما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه ( 19 ) الحاقة ) .
الجزء الأول فى هاؤم ( ه ) هو ليس كالجزء الأول فى لفظ ( هذا ) الجزء الأول من لفظ ( هذا )
نص العلماء على أن ( ذا ) هو إسم الإشارة .
وتدخل الهاء للتنبيه فيقال ( هذا ) وأحيانا لا تدخل الهاء وإنما يأتى ذاك وذلك لكن هنا ( هاؤم )
الهاء ليست للتنبيه و ( أؤم ) التى يحار الناس فى معناها وإنما هذه لفظة هى إسم فعل ( هاؤم ) كلمة كاملة كما هى بمعنى ( خذوا ) كأنما يريد أن يعطيهم شيئا ( هاؤم اقرأوا كتابيه ) خذوا كتابى فاقرأوه .
( هاؤم ) قال العلماء تستعمل فى لحظة الفرح الشديد يقول هاؤم هذا وانظروا فيه .

تتبع كلمة ( هاؤم ) فى لغات العرب :
بعض العلماء تتبع هذه اللفظة فى لغات العرب فوجد أن العرب تستعملها بثمانى طرائق :
1 ) منهم من يقول ( ها ) فقط  : ها يا رجل / ها يا امرأة / ها يا رجلان / ها يا امراتان /
ها يا رجال / ها يا نسوة صورة واحدة بمعنى خذ وخذى وخذا وخذوا وخذن .
2 ) وبعضهم يستعمل معها الهمزة ( ها ) ها يا رجال .
3 ) لكن يقولون أكثرها استعمالا التى أشار إليها سيبويه إمام النحاة وهى التى يقول فيها العربى
( هاء يا رجل / هاء يا امرأة / هاءا يا رجلان ويا امرأتان / هاؤن للنساء وهاؤم يا رجال ) فهذه هى اللغة العليا الأكثر استعمالا أن تلحق الألف همزة مفتوحة قبل كاف الخطاب هذه لغة أخرى :
( هاءك / هاءك / هاءكما / هاءكن/ هاءكم ) ثمانى لغات لكن اللغة التى عليها القرآن الكريم .
1 ) أجودها ما حكاه سيبويه لما يقول العرب تقول أى جمهور العرب فهى اللغة العليا المثلى تقول ( هاء / هاء / هاءا / هاءكن / هاؤم ) .
فالميم فى هاؤم كالميم فى أنتم وضمها كضمها فى بعض الأحيان وفسر هنا ( بخذوا ) وتستعمل عند الفرح والنشاط وكأنها جواب كأنها لشخص يقول : ما عندك ؟ يقول : هاء ما عندى فى حال فرحك ونشاطك وسرورك هؤلاء كانوا مسرورين فيقولون ( هاؤم ) لفرحهم وسرورهم والذى أعطى كتابه بشماله؟ لم يقل هاؤم .

هناك فرق بين هاؤم وخذوا :
هاؤم كانها لفظة سرور لكن إذا قلت خذوا أى خذوا هذا الأمر وأنت فرح أو غاضب أو راض أو غير راض أو غيره لكن هاؤم فيها سرور وفرح .

لا تخفى منكم خافية :
مناسبة أن تقول أن هذه الآية وحدها لو كان الإنسان يتبصر فيها لتوقف عن كل عمل لا يرضى الله سبحانه وتعالى لما يتذكر أنه ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) هذه وحدها لو أراد أن يسرق أو يعصى .
يقول صحيح أنه لا أحد يرانى لكن كيف أصنع يوم لا تخفى خافية ؟ سلامة لما قالت لعبد الرحمن القس ( يقال له قس لعبادته ) قالت له : إنى لأحبك قال وأنا والله قالت : وأشتهى أن أقبلك قال وأنا والله قالت : فما يمنعك فإن الموضع لخال ؟ قال : يمنعنى قول الله عز وجل ( تذكروا فإذا هم مبصرون ) ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ( 67 ) الزخرف ) فأخشى أن نحول محبتى لك عداوة يوم القيامة فلو تذكر الإنسان دائما هذه الآية ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) ما كان عصى أحد ربه سبحانه وتعالى .

هل ورد التنازع فى القرآن الكريم ؟
ورد التنازع فى القرآن الكريم فى أكثر من موضع ومن ذلك قوله تعالى ( هاؤم اقرؤوا كتابيه 19
الحاقة ) هاؤم هذا اسم فعل بمعنى هاتوا اقرأوا فعل أمر كتابيه هاؤم اقرأوا كتابيه تنازعوا الكتاب هاؤم اقرأوا الكتاب هاتوا الكتاب واقرأوه وإسم الفعل يعمل عمل الفعل .

آية ( 25 ) :
ما الفرق بين ( وأما من أوتى كتابه بشماله ( 25 ) الحاقة ) ( وأما من أوتى كتابه وراء ظهره
( 10 ) الانشقاق ) .
بشماله أو من وراء ظهره يا أخى هذا الشمال هذا الكتاب هكذا ثم يده مغلولة بالخلف فهى يده مغلولة وراء ظهره فيعطى الكتاب بشماله المغلولة وراء ظهره .

آية ( 37 ) :
ما الفرق بين قوله تعالى فى سورة البقرة ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ( 286 ) وفى الحاقة ( ولا طعام إلا من غسلين ( 36 ) لا يأكله إلا الخاطئون ( 37 ) ؟
هذا سؤال لغوى .

الفرق بين الخاطىء والمخطىء هو :
الخاطىء  : فعله خطىء وهو الذى يتعمد الخطأ أو يواقع الذنب وهو يعلمه .
الخاطىء من خطأ وخطأ معناها ارتكب الخطيئة وليس معناها أخطأ فالمخطىء غير الخاطىء .
قال تعالى : ( واستغفرى لذنبك إنك كنت من الخاطئين ( 29 ) يوسف ) وقال : ( إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ( 8 ) القصص ) .

المخطىء : فعله أخطأ : الذى لا يتعمد خطأ ولا يقترف الذنب إلا جهلا أو سهوا بلا قصد وفى الحديث ( من اجتهد فأخطأ فله أجر
المخطىء ارتكب الخطيئة الخطء ( إن قتلهم كان خطءا كبيرا ( 31 ) الاسراء )
ومنه قوله تعالى : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ( 286 ) البقرة ) .
وقوله : ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ( 5 ) الأحزاب ) والله أعلم بالصواب .

آية ( 51 ) :
فى سورة التكاثر قال تعالى ( كلا لو تعلمون علم اليقين ( 5 ) ) ومباشرة بعدها ( ثم لترونها عين اليقين ( 7 ) ) وفى سورة الحاقة ( وإنه لحق اليقين ( 51 ) ) فما دلالة الاختلاف علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين ؟ وهل نفهم أن اليقين له مراتب ؟
اليقين : الأمر الثابت أى الحق الثابت .
علم اليقين : أن تتيقن من الشىء ابراهيم عليه السلام لما سأل ربه كيف تحيى الموتى ؟ قال أولم تؤمن ؟ قال بلى هذا علم يقين لم يكن ابراهيم شاكا وابراهيم يعلم ذلك علم اليقين ليس متشككا إذن يعلمه علم اليقين فلما رأى الطير صار عين اليقين رآها بعينه شاهدها مشاهدة .
عين اليقين : أن يرى الشىء بعينه
وحق اليقين : أعلى درجات اليقين .
ولذلك القدامى يضربون مثالا يقولون علم الناس بالموت هذا علم اليقين .
فإذا رأى ملائكة الموت وهو فى النزع هذا عين اليقين فإذا ذاقه صار حق اليقين .

تناسب فواتح سورة الحاقة مع خواتيمها :
بدأت بعقوبة المكذبين بالحاقة والقارعة فى الدنيا ( الحاقة ( 1 ) ما الحاقة ( 2 ) وما أدراك ما الحاقة ( 3 ) كذبت ثمود وعاد بالقارعة ( 4 ) ) ثم ذكر إهلاك ثمود وعاد ( فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ( 5 ) وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ( 6 ) ثم ذكر الحاقة وأحوالها المؤمنين والمكذبين بها ( فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه ( 19 ) ) ( وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول ياليتنى لم أوت كتابيه ( 25 ) ) إذن قال فى أولها ( كذبت ثمود وعاد بالقارعة ( 4 ) ) ثم ذكر عاقبتهم وفى الآخر قال ( وإنا لنعلم أن منكم مكذبين ( 49 ) ) وهم كذبوا ( كذبت ثمود وعاد بالقارعة ) فأهلناكم ( فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ( 5 ) وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ( 6 ) ( وإنا لنعلم أن منكم مكذبين ( 49 ) وإنه لحسرة على الكافرين ( 50 ) ) عاقبتهم الحسرة أولئك أهلناكم وأنتم عاقبتكم الحسرة .


Comments

Popular posts from this blog

تفسير سورة الزخرف للشعراوى

تفسير الشعراوى لسورة النجم

تفسير سورة الزخرف للشعراوى